فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (15):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.
وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمائلة لما كانت منقادة لنا.
وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار. {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها} هو أمر إباحة، وفية إظهار الامتنان.
وقيل: هو خبر بلفظ الامر، أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها.
وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: فِي مَناكِبِها في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن.
وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. واصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: امشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع.
وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي مما أحله لكم، قاله الحسن.
وقيل: مما أتيته لكم. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} المرجع.
وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.

.تفسير الآية رقم (16):

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)}
قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه.
وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الاله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض.
وقيل: هو إشارة إلى الملائكة.
وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. {فَإِذا هِيَ تَمُورُ} أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر:
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى ** دما مائرا إلا جرى في الحيازم

جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور.
وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء، كقوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير.
وقيل: معناه أمنتم من على السماء، كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز، أي واليها وأميرها. والاخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لان السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، واليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرأ قنبل عن ابن كثير النُّشُورُ وأَمِنْتُمْ بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية. وقرأ الكوفيون والبصريون واهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه.

.تفسير الآية رقم (17):

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً} أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل.
وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء.
وقيل: سحاب فيه حجارة. {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي إنذاري.
وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون. {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي إنكاري وقد تقدم. وأثبت ورش الياء في نذيري، ونكيري في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ} أي كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور. وصافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. وَيَقْبِضْنَ أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض، لأنه يقبضهما. قال أبو خراش:
يبادر جنح الليل فهو موائل ** يحث الجناح بالتبسط والقبض

وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على صافَّاتٍ عطف المضارع على أسم الفاعل، كما عطف أسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر:
بات يعشيها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر

ما يُمْسِكُهُنَّ أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.

.تفسير الآية رقم (20):

{أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)}
قوله تعالى: {أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ} فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: {هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} وهو استفهام إنكار، أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي من سوى الرحمن. {إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} من الشياطين، تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب.

.تفسير الآية رقم (21):

{أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}
قوله تعالى: {أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ} أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. {إِنْ أَمْسَكَ} يعني الله تعالى رزقه. {بَلْ لَجُّوا} أي تمادوا وأصروا. {فِي عُتُوٍّ} طغيان {وَنُفُورٍ} عن الحق.

.تفسير الآية رقم (22):

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}
قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ} ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر مُكِبًّا أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له.
وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
وقال ابن عباس والكلبي: عني بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار بن ياسر، قاله عكرمة.
وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه، فيما لا يتعدى بالألف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه، بغير ألف.

.تفسير الآية رقم (23):

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23)}
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يعني القلوب {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا، أي لا أفعله.

.تفسير الآيات (24- 25):

{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)}
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي خلقكم في الأرض، قاله ابن عباس.
وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها، قاله ابن شجرة. {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} حتى يجازي كلا بعمله. {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي متى يوم القيامة! ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (26):

{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] الآية. {وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي مخوف ومعلم لكم.

.تفسير الآية رقم (27):

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} مصدر بمعنى مزدلفا أي قريبا، قاله مجاهد. الحسن عيانا. وأكثر المفسرين على أن المعنى: فلما رأوه يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة.
وقال مجاهد: يعني عذاب بدر.
وقيل: أي رأوا ما وعدوا من الحشر قريبا منهم. ودل عليه تُحْشَرُونَ.
وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السيئ قريبا. {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي فعل بها السوء.
وقال الزجاج: تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. وقرأ نافع وابن محيصن وابن عامر والكسائي: {سئت} بإشمام الضم. وكسر الباقون بغير إشمام طلبا للخفة. ومن ضم لاحظ الأصل. {وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} قال الفراء: تَدَّعُونَ تفتعلون من الدعاء وهو قول أكثر العلماء أي تتمنون وتسألون.
وقال ابن عباس: تكذبون، وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث، قاله الزجاج. وقراءة العامة تَدَّعُونَ بالتشديد، وتأويله ما ذكرناه. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق والضحاك ويعقوب {تدعون} مخففة. قال قتادة: هو قولهم: {رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا} [ص: 16].
وقال الضحاك: هو قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} [الأنفال: 32] الآية.
وقال أبو العباس: تَدَّعُونَ تستعجلون، يقال: دعوت بكذا إذا طلبته، وادعيت افتعلت منه. النحاس: تَدَّعُونَ وتدعون بمعنى واحد، كما يقال: قدر واقتدر، وعدي واعتدى، إلا أن في أفتعل معنى شيء بعد شي، وفعل يقع على القليل والكثير.